فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلَّا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا لابد مِنْ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، فَإِذَا طَلَبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} أَيْ دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الشَّاهِدِ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وَقَالَ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَفِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ، نَحْوُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ، وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوُهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ الْإِقَامَةُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِقَامَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، وَثُبُوتُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ.

.كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا- يَرْجِعُ إلَى مَالِ الشَّاهِدِ، وَالثَّانِي- يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، أَمَّا الْأَوَّلُ- فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إتْلَافُ الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ بِالشَّهَادَةِ؛؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَجِبُ إمَّا بِالِالْتِزَامِ أَوْ بِالْإِتْلَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ الِالْتِزَامُ فَيَتَعَيَّنَ الْإِتْلَافُ فِيهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنْ وَقَعَتْ إتْلَافًا انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَلَا.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ سَبَبًا إلَى الْإِتْلَافِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى الْإِتْلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلِمَ لَا يَرُدُّهُ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمَشْهُودِ لَهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ- أَنَّ الرُّجُوعَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمَشْهُودِ بِهِ نَفَذَ بِدَلِيلٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَلَا يُنْتَقَضُ الثَّابِتُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعِي كَمَا كَانَ.
وَالثَّانِي- أَنَّ الشَّاهِدَ فِي الرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَتِهِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ، لِجَوَازِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَرَّهُ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ فَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ لِلتُّهْمَةِ، إذْ التُّهْمَةُ كَمَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ، وَلَا يُسْتَرَدُّ الْمُدَّعَى مِنْ يَدِهِ، وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقّه، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الصِّحَّةِ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَيَظْهَرُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى بَدَلِهِ رِعَايَةً لِلْجَوَانِبِ كُلِّهَا، وَإِذَا رَجَعَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَلَا تَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِتْلَافِ بِدُونِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالدُّخُولِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا، فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ بِأَنْ كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ بِالْمُتْعَةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى ثُمَّ رَجَعَا: ضَمِنَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، لَكِنَّهَا أَكَّدَتْ الْوَاجِبَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ تَأَكَّدَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَهُ أَصْلًا، فَصَارَتْ شَهَادَتُهُمَا مُؤَكِّدَةً لِلْوَاجِبِ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ، كَالْمُحْرِمِ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخِذِ، وَيَرْجِعُ الْآخِذُ بِذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ تَأْكِيدًا لِلْجَزَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ، إذْ لَوْلَا ذَبْحُهُ لَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِرْسَالِ، فَهُوَ بِالذَّبْحِ أَكَّدَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ الْمُؤَكَّدُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْوَاجِبِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَهُ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ فَيَضْمَنَانِ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ نَفَذَ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْوَلَاءُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ قِيلَ لَهُ: الْوَلَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَانَ هَذَا إتْلَافًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وَلَدَتْ مِنْهُ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ رَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، وَإِمَّا أَنْ رَجَعَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا، فَتُقَوَّمُ أَمَةً قِنًّا وَتُقَوَّمُ أُمَّ وَلَدٍ: لَوْ جَازَ بَيْعُهَا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا هَذَا الْقَدْرَ حَالَ حَيَاتِهِ فَيَضْمَنَانِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، وَيَضْمَنَانِ بَقِيَّةَ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا كُلَّ الْجَارِيَةِ، لَكِنَّ بَعْضَهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْبَاقِي بَعْدَ الْوَفَاةِ فَيَضْمَنَانِ، كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا لَهُ، فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ نُقْصَانِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَلَدِ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ بِمَا قَبَضَ الْأَبُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْوَلَدَانِ رُجُوعَهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ مَا أَخَذَ الْأَبُ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي مِنْ تَرِكَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخٌ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ بِمَا أَخَذَهُ الْأَبُ مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا قَبَضَ الْأَخُ؛ لِأَنَّ الْأَخَ ظَلَمَ عَلَيْهِمَا فِي زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ لِلْأَخِ مَا أَخَذَ هَذَا مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا إذَا كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَلَدِ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ مِنْ قِيمَتِهِمَا لِمَا قُلْنَا، وَيَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْوَلَدِ، وَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ مَا أَخَذَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ الْمِيرَاثِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِلْأَخِ فِي زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا الْوَلَدَ، هَذَا إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا وَعَبْدًا وَأَمَةً وَتَرِكَةً، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ وَلَدَتْهُ هَذِهِ الْأَمَةُ مِنْ الْمَيِّتِ، وَصَدَّقَهُمَا الْوَلَدُ وَالْأَمَةُ، وَأَنْكَرَ الِابْنُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَجَعَا: يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنِصْفَ الْمِيرَاثِ لِلِابْنِ، فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمَمَاتِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَضْمَنَانِ الْمِيرَاثَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ حَالَ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْأَبُ أَوَّلًا فَيَرِثَهُ الِابْنُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الِابْنُ أَوَّلًا وَيَرِثَهُ الْأَبُ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِالنَّسَبِ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ إتْلَافًا لِلْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمَالِ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ فَيَضْمَنَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا:
يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ، فَيُقَوَّمُ قِنًّا، وَيُقَوَّمُ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا هَذَا الْقَدْرَ فَيَضْمَنَانِهِ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُدَبَّرُهُ، وَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ بَقِيَّةَ قِيمَتِهِ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا بَقِيَّةَ مَالِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمُدَبَّرِ عَتَقَ عَلَيْهِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْوَصَايَا، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ عَبْدًا قِنًّا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا تَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَيَضْمَنُ الشَّاهِدُ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا ثُلُثَ الْعَبْدِ، هَذَا إذَا كَانَتْ السِّعَايَةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا أَيْسَرَ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَإِنَّمَا الدُّخُولُ شَرْطٌ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِتْقِ لَا إلَى الشَّرْطِ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا، فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا لَا عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً، وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بِالْإِتْلَافِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْإِقْرَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّا صَرِيحًا، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَا فِي حَالِ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقَارِيرِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ خَطَأً، وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ جَاءَ الشَّاهِدَانِ بِآخَرَ فَقَالَا: أَوْهَمْنَا أَنَّ السَّارِقَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي وَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ، (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ قَتْلًا تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ، وَالتَّسْبِيبُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ.
(وَلَنَا) أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ لَكِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِيَدِ الْمُكْرَهِ وَهُوَ كَالْآلَةِ، وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ عَنْ نُصُوصِ الْمُمَاثَلَةِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْفَرْعِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إتْلَافُ الْمَالِ وَلَا النَّفْسِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا قَامَتْ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَعَفَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ، وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مَالًا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَكَذَا مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَفَا، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ مَالًا اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَمَا إذَا تَبَرَّعَ فِي مَرَضِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الدِّيَةَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إتْلَافٌ لِلنَّفْسِ؛؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ، فَقَدْ أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْمَوْلَى نَفْسًا تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنَانِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ، بَلْ الثَّابِتُ لَهُ مِلْكُ الْفِعْلِ لَا مِلْكُ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ مَا يُنَافِي الْمِلْكَ لِمَا عُلِمَ فِي مَسَائِلِ الْقِصَاصِ فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافَ النَّفْسِ وَلَا إتْلَافَ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْأَبُ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ لِانْعِدَامِ إتْلَافِ الْمَالِ مِنْهُمَا.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الرُّكْنَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالشَّهَادَةِ وُقُوعُ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا، وَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا إذَا صَارَتْ حُجَّةً وَلَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ فَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا بِهِ.
(وَمِنْهَا) مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَلَا عِبْرَةَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي كَمَا لَا عِبْرَةَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى رُجُوعِهِمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَكَذَا لَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا إذَا أَنْكَرَ الرُّجُوعَ إلَّا إذَا حَكَيَا عِنْد الْقَاضِي رُجُوعَهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ رُجُوعُهُمَا؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ رُجُوعِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ مُعْتَبَرًا.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ بِالشَّهَادَةِ عَيْنَ مَالٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْفَعَةً لَا يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ، وَهِيَ تُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ شَيْئًا؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ.
وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ بِعَارِضِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شَيْئًا؛؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عَلَى الزَّوْجِ الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هَذِهِ الدَّابَّةَ مِنْ فُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَأَجْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَالْمُؤَجِّرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ وَقَضَى الْقَاضِي.
ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمُؤَجِّرِ شَيْئًا؛؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ إتْلَافُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنَ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةً لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَكُونُ إتْلَافًا صُورَةً لَا مَعْنًى، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُشْتَرِي؛؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِعِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ أَوْ أَقَلَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ لِلْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ؛؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِغَيْرِ الزِّيَادَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالرَّجُلُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شَيْئًا وَإِنْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِعِوَضٍ لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ، وَهُوَ الْبُضْعُ؛؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ ابْنِهِ امْرَأَةً وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْبُضْعُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا مَلَكَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ عَلَى ابْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا، لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ فِي حُكْمِ الْمَالِ فِي حَالِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ كَالتَّبَرُّعِ، دَلَّ أَنَّ الْبُضْعَ يُعْتَبَرُ مَالًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ هُوَ فِي حُكْمِ عَيْنِ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْمَرْأَةُ تُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا عَيْنَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا؛؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ حَالَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يُعْتَبَرُ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَخْلَعَ مِنْ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَالٍ، وَلَوْ فَعَلَ وَأَدَّى مِنْ مَالِهَا يَضْمَنُ وَلَوْ كَانَ مَالًا لِمِلْكٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا حَالَ مَرَضِهَا عَلَى مَالٍ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لَاعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَمَا فِي سَائِرِ مُعَاوَضَاتِ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ حَالَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ حَصَلَتْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا عَلَيْهِمَا مِنْ عِوَضٍ أَصْلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ آجَرَ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ يَنْظُرُ، إنْ كَانَ أُجْرَةُ الدَّارِ مِثْلَ الْمُسَمَّى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ لَكِنْ بِعِوَضٍ، لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ؛؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ الْأُجْرَةِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْقَاتِلِ: أَنَّهُ صَالَحَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ عَلَى مَالٍ، وَالْقَاتِلُ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا لِلْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ بِعِوَضٍ، وَهُوَ النَّفْسُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرِيضِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَصَالَحَ الْوَلِيَّ عَلَى الدِّيَةِ جَازَ، وَلَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ النَّفْسُ عِوَضًا لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، دَلَّ أَنَّ هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ إلَّا إذَا شَهِدَا عَلَى الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ؛؛ لِأَنَّ تَلَفَ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى فَصْلِ التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّ مَا قَابَلَهُ عِوَضٌ، لَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ فَافْهَمْ ذَلِكَ.
وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ، وَالرُّجُوعُ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ الْفُرُوعُ وَثَبَتَ الْأُصُولُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَثَبَتَ الْفُرُوعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفُرُوعِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ مِنْهُمْ، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأُصُولِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَا يَجِبُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجِبُ، (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرُوعَ لَا يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فَإِذَا شَهِدُوا فَقَدْ أَظْهَرُوا شَهَادَتَهُمْ، فَكَأَنَّهُمْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَشَهِدُوا ثُمَّ رَجَعُوا، (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وُجِدَتْ مِنْ الْفُرُوعِ لَا مِنْ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا شَهِدَ الْفُرُوعُ، وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ مِنْ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، فَلَا يَضْمَنُونَ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُصُولِ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْفُرُوعِ حَقِيقَةً لَا مِنْ الْأُصُولِ، وَعِنْدَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولُ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الْأُصُولَ أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ.
وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الرُّجُوعِ رُجُوعُ الشُّهُودِ وَالْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّ الْمُزَكِّينَ لَوْ زَكَّوْا الشُّهُودَ فَشَهِدُوا، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رُجُوعَ الْمُزَكِّينَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِنَاءً عَنْ الشُّهُودِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ؛؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِوُقُوعِهِ إتْلَافًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إتْلَافًا بِالتَّزْكِيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا التَّزْكِيَةُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، فَكَانَتْ إتْلَافًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ كَوْنِ الزِّنَا عِلَّةً، وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الضَّمَانِ فَالْأَصْلُ أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْإِتْلَافِ؛؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْإِتْلَافُ، وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ، وَالْعِبْرَةُ فِيهِ لِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ بَعْدَ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرُّجُوعِ مَنْ يَحْفَظُ الْحَقَّ كُلَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ بَعْضَ الْحَقِّ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ضَمَانُ قَدْرِ التَّالِفِ بِالْحِصَصِ، فَنَقُولُ: بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً، فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا رَجَعَ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَحْفَظَانِ الْمَالَ، وَلَوْ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ النِّصْفَ عِنْدَنَا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِمَالٍ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ: غَرِمَ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ بَقِيَ بِثَبَاتِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ غَرِمَتَا نِصْفَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِثَبَاتِ الرَّجُلِ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالُ، نِصْفُهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَرُبُعُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِبَقَاءِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ الرُّبُعُ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ عَلَيْهَا الرُّبُعُ وَعَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَنِصْفُ الْمَالِ عَلَى الرَّجُلِ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الشَّهَادَةِ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهَا، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ ثُمَّ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِالرَّجُلَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلَانِ يَضْمَنَانِ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَحْفَظَانِ النِّصْفَ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ يَحْفَظُونَ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا رُبُعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ الرُّبُعَ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ أَيْضًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ ضِعْفَ مَا تَلِفَ بِشَهَادَتِهَا وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسٌ: سُدُسُهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ: نِصْفُهُ عَلَى الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ عَلَى النِّسْوَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَهُنَّ شَطْرُ الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ وَالنِّصْفَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ، فَكَانَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَنْصَافًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ، فَكَانَ قِسْمَةُ الضَّمَانِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَتْ النِّسْوَةُ غَرِمْنَ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ، هَذَانِ الْفَصْلَانِ يُؤَيِّدَانِ قَوْلَهُمَا فِي الظَّاهِرِ وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَقِيَ مَحْفُوظًا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِثَبَاتِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ الرُّبُعَ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمَالِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَالثُّلُثُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ تِسْعَ نِسْوَةٍ يَحْفَظْنَ الْمَالَ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ النِّصْفَ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ وَامْرَأَةٌ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِصْفُ الْمَالِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: خُمُسَاهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ، وَعِنْدَهُمَا نِصْفُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرْنَ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ كُلِّ نَوْعٍ نِصْفَ الْمَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَرْبَاعٌ: عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ شَهِدَا بِكُلِّ الْمَهْرِ؛؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ، وَلِلْمُؤَكَّدِ حُكْمُ الْمُوجَبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَشَاهِدَيْ الطَّلَاقِ شَهِدَا بِالنِّصْفِ؛؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، فَشَاهِدُ الدُّخُولِ انْفَرَدَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَكَ فِيهِ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ، فَكَانَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ، وَثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ.
فَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا- وُجُوبُ الْحَدِّ لَكِنْ فِي شَهَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الزِّنَا، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّهُودِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ انْعَقَدَ قَذْفًا لَا شَهَادَةً، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا رَجَعُوا فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجَبُ الْحَدُّ بِالنَّصِّ.
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ وَإِنْ صَارَ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَقَدْ انْقَلَبَ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَصَارُوا بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ، وَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَالْإِمْضَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفُوا صَرِيحًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَيَسْقُطُ.
(وَلَنَا) أَنَّ بِالرُّجُوعِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَذْفًا وَقْتَ الرُّجُوعِ، وَالْمَقْذُوفُ وَقْتَ الرُّجُوعِ مَيِّتٌ فَصَارَ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَجِبُ الْحَدُّ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ.
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْإِمْضَاءِ: لَا ضَمَانَ أَصْلًا لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا ضَمِنُوا الدِّيَةَ بِلَا خِلَافٍ لِوُقُوعِ شَهَادَتِهِمْ إتْلَافًا أَوْ إقْرَارًا بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَرْشُ الْجَلَدَاتِ إذَا لَمْ يَمُتْ مِنْهَا وَلَا الدِّيَةُ إنْ مَاتَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ وَقَعَتْ إتْلَافًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ؛؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ.
وَالْقَضَاءُ يُفْضِي إلَى إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ وَأَنَّهَا تُفْضِي إلَى التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَكَانَتْ إتْلَافًا تَسْبِيبًا، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ أَوْ بِالْمَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ وَالضَّمَانُ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- أَنَّ الْأَثَرَ حَصَلَ مُضَافًا إلَى الضَّرْبِ دُونَ الشَّهَادَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا- أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى ضَرْبٍ جَارِحٍ؛؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْجَارِحَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الْجَلْدِ، فَلَا يَكُونُ الْجُرْحُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ وَالثَّانِي- أَنَّ الضَّرْبَ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ وَالشَّهَادَةَ تَسْبِيبٌ إلَيْهِ.
وَإِضَافَةُ الْأَثَرِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى التَّسْبِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ خَطَأً مِنْ الْقَاضِي لِيَكُونَ عَطَاؤُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ هاهنا فَلَا شَيْءَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً قَذْفًا لِكَمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ.
وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمْ، فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ؛؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكْمُلْ فَوَقَعَ كَلَامُهُمْ مِنْ الِابْتِدَاءِ قَذْفًا.
(وَلَنَا) أَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَصِيرُ شَهَادَةً إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِهِ فَقَبْلَهُ يَكُونُ قَذْفًا لَا شَهَادَةً، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِالنَّصِّ لِوُجُودِ الرَّمْيِ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُمْ يَحُدُّونَ لِوُقُوعِ كَلَامِهِمْ قَذْفًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الرَّاجِعُ خَاصَّةً، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَلَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَّا بِالرُّجُوعِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ خَاصَّةً قَذْفًا، فَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً فَلَا يُحَدُّونَ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مِنْ الْقَضَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَمَى الشُّهُودِ أَوْ رِدَّتَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ فَبَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْإِمْضَاءِ، فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، كَذَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ؛؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَانْقَلَبَتْ شَهَادَتُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فَيُحَدُّ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ يُحَدُّ الرَّاجِعُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ.
فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا ضَمَانَ إذَا كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ أَرْشِ السِّيَاطِ وَلَا مِنْ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا غَرِمَ الرَّاجِعُ رُبُعَ الدِّيَةِ؛؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْفَظُونَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ الرُّبُعَ، هَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً، فَأَمَّا إذَا كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ؛؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ نِصَابٌ تَامٌّ يَحْفَظُونَ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْضَى الْحَدَّ ثُمَّ رَجَعَ اثْنَانِ ضَمِنَا رُبُعَ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ الْمَرْجُومُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَامُوا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِمَا الرُّبُعَ فَيَضْمَنَانِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَرْشٌ لِلضَّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَالثَّانِي- وُجُوبُ التَّعْزِيرِ فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ سِوَى الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بِأَنْ تَعَمَّدَ شَهَادَةَ الزُّورِ، وَظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ؛؛ لِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَتُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرٌ فَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي سُوقِهِ أَوْ مَسْجِدِ حَيِّهِ وَيُحَذَّرُ النَّاسُ مِنْهُ فَيُقَالُ: هَذَا شَاهِدُ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يُضَمُّ إلَيْهِ ضَرْبُ أَسْوَاطٍ، هَذَا إذَا تَابَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: إنِّي شَهِدْتُ بِالزُّورِ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ قَائِمٌ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ.
؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَلَيْسَ إلَيْهِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَشْهَرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ نَادِمًا عَلَى مَا فَعَلَ لَا مُصِرًّا عَلَيْهِ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَوْجِبُ الضَّرْبَ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ يُضْرَبُ، وَفِعْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.